بين النزاع والصراع
قارئ كريم كان وراء فكرة هذا المقال من خلال تعليقه على أحد مقالاتي السابقة. والحق أن محاولة التعرف على الفرق بين مفهوميْ النزاع والصراع موضوع يستحق التمييز والتمحيص.
رحت أراجع القواميس، وأستذكر استعمالات المصطلحيْن في أدبياتنا السياسية. وجدت خلطاً يمزج بين المفهوميْن بشكل عام. حين كنا صغاراً، كانت تعبئتنا السياسية ضد إسرائيل عمادها أن صراعنا معها "صراع وجود، لا صراع حدود". لم نستعمل عبارة "نزاع وجود، لا نزاع حدود". فكلمة نزاع تعني أن طرفين أو أكثر في حرب بسبب شيء أو أكثر يتنازع عليه الأطراف، فيقال "نازعه منازعة". وحين نقول بالنزاع العربي-الإسرائيلي، فذلك يعني أن شيئاً ما يتنازع عليه الطرفان. بعد تبني السلام كخيار استراتيجي، تحول الصراع العربي إلى نزاع، على اعتبار أن مطالبنا العربية اليوم تنحصر في انتزاع الأراضي العربية المحتلة عام 1967. ومن ثم، فنحن لم نعد في حالة "صراع الوجود" مع إسرائيل- وهذا هو الموقف العربي والفلسطيني الرسمي المعلن.
ومن غرائب اللغة أن "النزع عن الشيء" يعني أيضاً التخلي عنه، فيقال "نزع عن كذا" أي انتهى عنه وتركه، ومن يدري؟ فقد يأتي يوم يُقال فيه إن العرب "نزعوا عن أراضي الـ67"- أي تخلوا عنها!! ثم قاموا ونازعوا عدوهم- أي صافحوه، ثم تنازعوا وإياه الكؤوس والأنخاب- أي تعاطوها.
ويُقال إن فلسطينيي المهجر نُزَّاعٌ إلى أوطانهم- أي يحنون إليها، وقال أمير الشعراء- أحمد شوقي في منفاه:
وطني لو شغلت بالخلد عنه- نازعتني إليه بالخلد نفسي
ومفرد النُّزاع نزيع ومؤنثه نزيعة، وهي التي تزوجت في غير أهلها وقومها- وكأنما انتزعت "انتزاعاً".
ولازال أهل الشام يستعملون أحد معاني "نزع" القديمة بمعنى فسد- فيقال "الأكل منزوع"، أو "نهاري انتزع"- بمعنى خرب. بينما يستعمل أهل الخليج كلمة نزع بمعنى قلع، فيقال "نزع ثيابه أو حذاءه". وكما تستعمل كلمة "نزع" بمعنى "قلع" فإنها تستعمل بمعنى "خلع"، فيقال "نزع الخليفة عامله على كذا". ووردت في القرآن الكريم: "تنزع الملك ممن تشاء". بعض الطغاة حاول تفسير هذه الآية لتبرير طغيانه وكتمانه على أنفاس البشر.
والنزاع مرتبط بالموت أيضاً، أو بالأصح- هو مرتبط بالاستسلام للموت واللحظات الأخيرة قبل خروج الروح، فيُقال: فلان ينازع- وإن قيل فلان يصارع الموت، ففي ذلك إمكانية لتغلبه عليه، ولكن منازعة الموت تعني أن المسألة مسألة وقت قبل أن يتغلب الموت على غريمه.
كتبت مرة عن الصراع والصدام مقالاً أحاول التعرف من خلاله على مدلولات الفرق بينهما في تراثنا السياسي، وجادلت صالح الصراع في مواجهة الصدام، ولا أزال أتمسك هنا بأبعاد معاني الصراع على النزاع، ففي النزاع يكون إما الموت أو الاستسلام- نزع عنه أو نازعه.
لقد أصبحنا "صُرْعة"- أي يصرعنا عدونا كثيراً، بسبب انتهاج النزاع، فحين تنازعنا وعدونا "شبعا" وثلة من الأسرى- دمرنا لبنان، ثم قلنا إننا انتصرنا. تداعيات ذلك الانتصار الوهمي مستمرة بلبنان اليوم حيث يعيش فراغاً حكومياً واحتقاناً- بل اقتتالاً طائفياً في طرابلس حتى اليوم.
والصرع حالة مرضية قد تصيب الإنسان وتنتابه بين حين وآخر فتصرعه، لكن للعربية إبداعاً في فنون مفرداتها، "فالصُرَعة" مشتقة من "صرع- ومعناها الحلم وقت الغضب.
أحب انتهاج الصراع ضد العدو ومعاضدة مع الصديق، وأرى الحياة "عقيدة وصراع"- بمعنى جهاد سرمدي من أجل الخير والتعليم والتقدم وسيادة العقل والتعايش والسلم والأطفال والأزهار وموسيقى حالمة تنفث لحناً للخلود البشري من أجل السلام، واستمرار الصراع المحمود من أجل عالم أفضل.
د.سعد بن طفله العجمي